د. حسين مجدوبي
تعيش إسبانيا محاولة انفصال أو استقلال كتالونيا وعمدت إلى منهجية ديمقراطية للحل بعيدا عن الاعتقالات، ويعيش المغرب في الوقت نفسه حراكا شعبيا في الريف، لكن غابت المنهجية الديمقراطية وحضر الهاجس الأمني والاعتقالات بالجملة، التي قاربت الـ500 شخص.
لا نهدف إلى المقارنة السياسية بين ما يجري في الريف وكتالونيا، وإن كانت العلاقات الاقليمية رمزية تاريخيا. فقد وقفت كتالونيا سياسيا وفكريا، بل حتى ماديا الى جانب الشعب المغربي في مواجهة الاستعمار الإسباني. ويحفظ التاريخ للكتالان انتفاضتهم ضد الحرب في الريف في بداية القرن العشرين، ومنها ما يعرف في الأدبيات التاريخية في إسبانيا بـ»الأسبوع الأسود» أو «الأسبوع المأساوي». وهي انتفاضة الشباب خلال يوليو من سنة 1909 رافضا التجنيد للذهاب الى الحرب في الريف، ووقعت مواجهات في برشلونة أدت الى مقتل العشرات.
كتالونيا منطقة تبنت ومنذ قرون فكرة الانفصال عن إسبانيا، وأعلنت في مناسبات متعددة الاستقلال والجمهورية وآخرها يوم الجمعة 27 أكتوبر 2017. وتوجد في كتالونيا أحزاب قومية لا تعترف بالملكية ولا تعترف بوحدة إسبانيا، ورغم ذلك لديها تمثيلية في البرلمان الإسباني مثل، حزب اليسار الجمهوري الكتالاني، والأحزاب القومية الانفصالية هي التي تحكم الإقليم.
بينما يعتبر الريف رائد الدفاع عن وحدة أراضي المغرب في مواجهة الزحف الأوروبي منذ نهاية القرن الخامس عشر، خاصة الواجهة المتوسطية. فمنذ استعمار إسبانيا إبان حكم إيزابيلا الكاثوليكية مدينة مليلية عام 1497 لم يستطع الإسبان احتلال أي منطقة بحرية أخرى في الساحل المغربي المطل على البحر الأبيض المتوسط، إذ وقف الريف سدا منيعا في وجه تقدم الأوروبيين نحو الداخل، وما كان عليه سوى التسرب من الواجهة الأطلسية، حيث كانت السلطة المركزية ضعيفة ولم تقو على صد الغزو الأوروبي الذي احتل عددا من النقاط الأطلسية المغربية. وسقط الريف في العشرينيات ومعه باقي المغرب بسبب تهاون، بل تعاون السلطة المخزنية التى انضمت الى اسبانيا وفرنسا ضد ثورة محمد عبد الكريم الخطابي، بعدما وقّعت على وثيقة الاستعمار. لم يشهد الريف أي حركة انفصالية عن الوطن الأم باستثناء ثورة الريف التي جاءت في ظروف سياسية استثنائية لها ما يبررها ومنها الموقف المخذل للسلطان يوسف.
نقلت القنوات التلفزيونية مباشرة تصويت البرلمان الكتالاني يوم 27 أكتوبر على وثيقة الاستقلال عن اسبانيا، لم تقترب الدبابات من محيط البرلمان، ولم تقم طائرات أف 18 بقصف هذا المجلس التشريعي، ولم يختف النواب البرلمانيون ووزراء حكومة الحكم الذاتي هربا من الملاحقة البوليسية. الحكومة المركزية الواثقة من نفسها، قامت بتفعيل فصل الدستور 155 الذي يجيز لها التدخل في الحكم الذاتي، وهو ما تفعله رغم الكثير من الغموض، ويستعد القضاء لمعالجة الملف الكتالاني بكل هدوء.
في المغرب لم يرفع شباب الريف شعارت انفصالية، بل علما يعتبر من تراث المغاربة وهو علم الثورة الريفية، لم ينادوا بالجمهورية، بل بأجندة ذات مطالب اجتماعية محضة، وهي الحق في التعليم والحق في الصحة والحق في العمل من أجل العيش الكريم. وماذا فعلت الدولة المغربية؟ في لمح البصر ارتفعت ساكنة الريف، وخاصة الحسيمة ليس بسبب التناسل، بل بسبب الآلاف من قوات الأمن التي تطوق المنطقة. جرى اعتقال المئات وشمّر القضاء عن ساعديه لبدء محاكمات ماراثونية وإصدار أحكام بالجملة.
في كتالونيا، لجأت حكومة الاقليم الى شن حملة دولية للتعريف بمواقفها وطالبت الدول بمساعدتها لطرد ما تعتبره استعمارا إسبانيا. لم تقدم مدريد على تخوين المسؤولين الكتالان، ولم تأمر صحافتها بشن حملات السب والقذف، بل حاولت اللجوء الى بناء خطاب سياسي مقنع للكتالان وتعهدت بتفادي استعمال العنف، كما حدث يوم استفتاء تقرير المصير في الفاتح من أكتوبر 2017.
وفي المغرب، اجتهدت عناصر من الدولة وإعلاميوها في تخوين الريف وفي إبداع تعابير السب والقذف في حق الناشطين وكل سياسي أو إعلامي تعاطف مع الأجندة الاجتماعية لمطالب ساكنة مهمشة، بل في تلفيق تهم غريبة مثل تلك التي تعرض لها الزميل حميد المهداوي مدير الجريدة الرقمية «بديل» بأنه لم يبلغ عن شخص أخبره بشراء دبابات روسية لناشطي الريف.
والآن لنبحث عن التقييم في تصرف وتعامل إسبانيا بشأن ما يجري في كتالونيا مع ما يجري في الريف، يمكن اختزال المغزى في نقطتين، هناك احترام المواطن الى مستوى القداسة وتطبيق آليات الديمقراطية. إسبانيا احترمت مواطنيها ولجأت إلى آليات الديمقراطية لحل هذا النزاع المعقد، بينما الدولة المغربية باعتقالاتها العشوائية طبقت مفهوم «طحن مو»، أما تطبيق آليات الديمقراطية، فذلك شيء مؤجل الى تاريخ ما أشبه بتطلع الإنسانية إلى تحقيق حلم «المدينة الفاضلة».
تصرفت الحكومة المركزية في مدريد بنوع من الذكاء لاستيعاب مطالب الكتالان وتفادي تعميق الجرح. وفي المقابل، قامت الدولة المغربية، بتعميق الجرح في الريف غير عابئة بجروح الماضي، لأنها لا تدرك الخطورة التي يمكن أن تسببها مستقبلا للبلاد بمعالجتها العشواء للملف، وهي التي سبق أن عمقت بتصرفاتها نزاع الصحراء الذي يعاني منه الشعب المغربي حاليا. إن الدولة التي استأسدت على الريف ظلما كان عليها الاستئساد على الفقر والأمية والبطالة، كما تفعل الدول التي تحترم مواطنيها وتجتهد في توفير العيش الكريم لهم.