كان السلطان المولى إسماعيل يطمح لإضفاء العظمة على إمبراطوريته، وجعل مكناس مدينة تضاهي العواصم الأوروبية، حتى أنها وصفت بفرساي المغرب مقارنة مع فرساي الملك لويس الرابع عشر. وما قِيل في حق مكناس لا يتسع المجال لسرده بأكمله، ويكفي ما حظيت به من الثناء من لذن السفراء الأجانب الذين تباروا في تعداد جمال المدينة والتغزل بمحاسنها، ولعل خير ما قيل في حقها، ما جاء في شعر وزير غرناطة الشهير لسان الدين بن الخطيب حين قال:
إن تفتخر فاس بما في طيها *** وبأنها في زيها حسناء
يكفيك من مكناسة أرجاؤها *** والأطيبان هواؤها والماء
مكناس كانت تعبيرا صارخا لعظمة الحضارة المغربية، وصرحا من صروح الحضارة الانسانية، ومقصدا للعلماء وطلاب العلم، ومنهالا وينبوعا من ينابيع المعرفة، ومرتعا للترويح على النفس بما تحويه من حدائق وقصور وديار أُعذت على الطراز المغربي الأنيق. لتستحق أن تكون احدى معالمها من ضمن عجائب الدنيا السبع. وقد يضن البعض أن المؤرخين بالغوا في وصفها خاصة حين قال بعضهم: “تعجز عنها الدول القديمة والحديثة من الفرس واليونان، والروم والعرب والترك، فلا يلحق ضخامة مصانعها ما شيده الأكاسرة بالمدائن، ولا الفراعنة بمصر ولا ملوك الروم بروما والقسطنطينية، ولا اليونان بأنطاكية والإسكندرية ولا ملوك الإسلام ودولة العظام كبني أمية بدمشق، وبني العباس ببغداد والعبيديين بإفريقيا ومصر”.
كل هذا قِيل في مكناس الماضي، فماذا يقال الآن عن مكناس الحاضر؟ هي قرية صغيرة أخلفت الموعد مع ركب التنمية. هي بقعة منسية فقدت هويتها، لتصبح مقاطعة تابعة بعدما كانت المقصد والمرجع، بعدما كانت منارا ساطعا نورها دوارا يُتهدى به ليخفت وينطفئ. هي بؤرة من بؤر العبث والفوضى. هي قبلة للانتهازيين والوصوليين، وسماسرة المصالح الذاتية، وضالتهم للسلب والنهب. هي المرتع الآمن للفاسدين والمفسدين، والمكان الخصب لتكاثرهم وتطوير أساليبهم في كيفية الاغتناء والانتقال من زمرة المنسيين إلى صفوة أصحاب الثروة والجاه والنفوذ. ولكم في بعض المنتخبين المحليين الحاليين وممن سبقهم النمودج الصارخ. هي الأم الثكلى التي تلقت العزاء في أبنائها وهم على قيد الحياة، بعدما أنكرتهم لما جحدوا فضلها، وتنكروا لمعروفها ونعمتها. هي الخرساء بعدما ابتلع مثقفوها ومؤرخوها وأدبائها وشعرائها ألسنتهم وانصرفوا عن تأدية دورهم في رد الاعتبار لها. هي المشتل الذي تُزهر فيه المشاريع والأفكار حتى تنضج، وعندما يحين موعد جني ثمارها تعلن الرحيل إلى مكان آخر. هي العين المعطاء التي روى الوجهاء والأعيان منها ظمأهم ليتركوا المياه تجري بعدهم في الوادي ملوثة، لا يمكن الشرب منها أبدا. هي المرأة المكلومة حينما اغتصبت أسوارها ومعالم العز والفخر فيها، والذي بناه الأجداد الأوائل البررة، ودنسه الأحفاد الأواخر العققة. فأين أنتم من الأجداد يأيها الأحفاد ؟ أين أنتم يا أهل مكناس من تاريخ أجدادكم العظيم ؟
فشتان بين الأجداد والأحفاد، فواحد بنى شيد و الآخر هدم وخرب. ما وصلت إليه مكناس المجد اليوم الكل يتحمل فيه المسؤولية من إعلاميين ومثقفين وسياسيين واقتصاديين وجمعويين وعوام الناس. و لا يجب البحث عمن نعلق عليه شماعة الوضع المزري المذل الذي وصلت إليه المدينة. فالمثقف تخلى عن أداء دوره في إبراز عظمة المدينة وأيامها المشرقة، والتعريف برجالتها الذين شرفهم التاريخ عندما أبلوا البلاء الحسن، وعاشوا ليس لأنفسهم بل للحفاظ على موروثها، حتى يصل إلينا اليوم بهذا الرقي والهيلمان، ومع ذلك اعتبرنا هذا الأمر سهلا رغم أنه كلف الأجداد التضحيات الجسام. لم يخبرنا المثقف أن من أدرك مهام التسيير في هذه المدينة، وأبلى البلاء الجيد فقد دخل التاريخ من بابه الواسع، وأما إن كان العكس فلا ملاذ له من التاريخ إلا مزابله. تخلى المؤرخ والأديب والشاعر وتركوا المجال للوصولين ممن يعتبرون الثقافة وسيلة لمراكمة الثروات، وابتدعوا مراسم وطقوس ليوهموا الناس أنهم رعاة الثقافة بالمدينة وحماتها، وما هم في الأصل إلا دعاة للتهريج والمهزلة. ولكم في مدير الثقافة بمديرية الثقافة، وراع الثقافة “المحنك” بالجماعة الحضرية النمودج. ومزبلة تاريخ مكناس مليئة بالسياسيين الذين سيروا شؤونها، ولم يستحضروا تاريخها، ولم يستلهموا من سير الأجداد وتضحياتهم شيئا. فكان همهم النهب و العبث والبلطجة في صرح من صروح الثقافية ومورثا حضريا عالميا. لو عرف سياسة مكناس قيمة الشرف الذي سينالونه عندما توالى مسؤولية تسييرهم للشأن المحلي ما ارتاعوا فسادا في المدينة، وكيف لهم أن يعوا ذلك، وجلهم إن لم نقل كلهم يجهلون تاريخ مدينتهم وبطولات رجالتها. ويكفي أن عقارب عز المدينة قد توقف يوم تولت شرذمة من المنتخبين مهمة تدبير المدينة، لتنزل لعنة الأجداد ليس على هؤلاء فقط بل على أهلها جميعا. وما يقال عن سياسيين يقال عن الإعلاميين عندما انصرفوا إلى تأجيج الصراعات والخلافات. وانشغلوا بتزكية هذا، والهجوم على ذلك مقابل فُتات موائد السياسيين والأعيان، ونسوا مكناس وما تحتاجه من أقلام جريئة ترصد العيب وتقومه، وتثني على الصالح وتشجع عليه. ليبقى دور الأعيان بالمدينة الحلقة الأهم والأقوى، في توجيه بوصة التنمية. ولنؤكد أن أعيان مكناس أخذوا من مكناس أكثر مما أعطوا لها، واستغلوا كل شبر بها لإقامة مشاريعهم واستثماراتهم، فكونوا بذلك لوبيا قطعوا به الطريق أما النوايا الصادقة في بناء استثمار يليق بصمعة المدينة وقيمتها، فجعلوا السياسي أداة لتحقيق مصالحهم يبيعون من خلاله خيرات مكناس للغير، ويبيعون الوهم لأهلها، وما يُخشى عليه الآن أن يتفاقم جشع هؤلاء إلى مستوى وضع المدينة في المزاد العلني. أما المجتمع المدني الذي من المفروض أن يكون الضمير الحي للمكناسيين فقد دون شهادة وفاته بنفسه عندما قَبل أن يكون لعبة بين أيدي السياسيين يتم التحكم به بحسب قيمة المنح التي توهب له. هي سلسلة الحلقة الأضعف فيها فئة عوام الناس الذين ينجرفون وراء التيارات النفعية، فبلا أن يلعبوا دور البطولة في هذه الحلقة فضلوا لعب دور “الكومبارس” في مسرحية عنوانها “زمن الرداءة”. فأين أنتم يا أهل مكناس من مجد وعظمة أجدادكم التاريخي ؟..
فؤاد السعدي – الجريدة