الجريدة / فؤاد السعدي
كان الاحتفاء بالذكرى العشرين لتصنيف مدينة مكناس تراثا إنسانيا، مناسبة لتشريح وضعية الشأن الثقافي بالمدينة، وتبيان أوجه القصور الذاتية والموضوعية، وعلاقتها مع مفاهيم الحق الثقافي، وثقافة الاختلاف، وثقافة المال العام، وثقافة الاعتراف، واحتكار الشأن الثقافي، وثقافة الانفتاح والتنوع. وهي فرصة، سنحاول من خلالها طرح العديد من التساؤلات الإشكالية بكل موضوعية وحيادية ومهنية، رغبة في استخلاص الدروس، وفي ذات الوقت لعرض مكامن القوة والضعف لنشاط يعتبر أول امتحان لنائبة رئيس جماعة مكناس المسؤولة عن القسم الثقافي والفني والرياضي.
وبعيدا عن منطق العدمية الذي يحرص البعض على الترويج له من خلال تصويب المدفعيات على نقط الضعف ليس من باب لفت الانتباه حتى يتم تحاشيها، ولكن من باب تصفية حسابات ضيقة، ما كانت لتكون لو تم وضع سمعة مكناس، وقيمة مكناس، وتاريخ مكناس، ضمن الأولويات.
فحسابات المنطق المتعارف عليه، تقول أن نجاح إي نشاط هو مرهون بالإقبال الجماهيري عليه، ومهرجان مكناس الذي عرف تنظيم ندوات فكرية، ومعارض تؤرخ للذاكرة المكناسية، ومعارض للصناعة التقليدية، وسهرات فنية شارك فيها فنانين كبار، (عرف) إقبالا جماهيريا مهما. وبغض النظر عن طبيعة هذا الجمهور، وانتمائه تبقى الحقيقة أنه حج بكثافة، وكان حاضرا خلال كل فقرات المهرجان منذ اليوم الأول حتى سهرة الاختتام. كذلك أن نعاين هذا الزخم من الأنشطة على امتداد ستة أيام تم الإعداد لها في فترة وجزية فهذه مسألة يجب التنويه فيها بالمنظمين، لأن العارف بخبايا الإعداد لمثل هذه الفعاليات، يعي جيدا كمية الضغط والجهد الملقى على كاهل المسؤولين مهما كان حجم الوسائل والإمكانيات المتاحة. فأن يخرج مهرجان مكناس في أول نسخة له بهذه الصورة فالأمر يستوجب التغاضي عن بعض الثغرات التي يمكن تلافيها مع توالي الدورات إن تم استحضار منطق الانفتاح والتشارك.
وحتى يكون النقد مفيدا ومنصهرا في بوتقة المصلحة العامة، لا بد من بعض المؤاخذة ليس بمنطق الجلد، ولكن من باب العتاب فقط على أمور عدة تم إغفالها. ولعل أولها ما يتعلق بتحويل الفعل الثقافي بمكناس إلى احتكار حزبي فئوي، وإلا بماذا نفسر تنظيم ملتقيات ومهرجانات تكرر ذاتها وموضوعاتها؟ ألا يطرح هذا مشكل إهدار المال العام؟ أضف إلى ذلك أسئلة سبقنا إلى طرحها الشارع المكناسي عندما عبر عن سخطه على صفحات المواقع الاجتماعية على توقيت المهرجان والضروف التي أتى فيها. وهو مؤشر يحتاج بدوره إلى فحص دقيق كي نميز داخله بين الواقعي، وما يتم إقحامه وتوظيفه ضمن خانة الحسابات الضيقة.
فهذا التذمر مهما كانت مبرراته فهو منطقي، مادام تدبير الشأن الثقافي تغلب عليه الإعتبارات السياسوية الضيقة، وهو ما يفسر الجهل التام على أن الثقافة تمثل الوعاء الذي تزدهر فيه التنمية. ولا نظن أن السيدة خوجا نائبة رئيس جماعة مكناس المسؤولة عن القسم الثقافي الفني والرياضي يخفى عليها كل هذا. وحتى وإن خفي عنها فدورنا التنبيه لهذه الإنزلاقات من أجل تفاديها، والتذكير بأن الشأن الثقافي ملك لكل المكناسيين، ولا يجوز المزايدة عليه أو توظيفه سياسيا وإيديولوجيا. وما كان هذا الأمر ليكون لو عمل رئيس جماعة مكناس على إخراج اتفاقية “مكناس تنشيط وتظاهرات” والمتعلقة بإحداثها وخلق دينامية للتنشيط الثقافي والفني والرياضي بمكناس وبالتالي تفادي كل هذه التأويلات.
كذلك، وبدل البدء بالشق الاحتفالي، كان على المنظمين من اجل تثمين التراث المادي لمدينة مكناس، تسخير كل الوسائل الممكنة والمتاحة للترميم والمحافظة عليه على اعتبار أنه جزء من الذاكرة والهوية الثقافية المغربية، وأحد مقومات الشخصية المغربية الضاربة في عمق التاريخ، والعمل على تسويقه ليلعب دوره كرافعة للتنمية المستدامة. وقد كانت المناسبة مواتية أيضا لتقييم عمل المجلس السابق في هذا المجال. ولعلها قلت التجربة، والانغلاق على الذات، والأحادية في اتخاذ القرار هي من أدت إلى سقوط هذه الأمور من اعتبارات إدارة المهرجان حتى ينعتوا بقصر نظر وضيق رؤية.
كما أن الفرصة كانت سانحة ليعرف المكناسيون أين وصلت الاتفاقية التي تم التوقيع عليها بمراكش ديسمبر 2015 بخصوص استحداث شبكة تروم تثمين التراث المادي للمدن المصنفة تراثا عالميا، وإنشاء بنك للمعلومات خاص بهذه المدن عبر موقع اﻻنترنيت لتبادل المعلومات في إطار استراتيجية لتنمية رصيدها التراثي مع تعميم نظام المعلومات الجغرافية حولها وإدماج عائدات الصناعة السياحية والثقافية في برامج التنمية للمدن التاريخية. وماذا كان نصيب مكناس منها؟
وما يؤكد بأن القائمين على مهرجان مكناس كانت لهم نظرة ضيقة هو تركيزهم على الطابع الاحتفالي أكثر منه ترسيخ لثقافة الاعتراف والإشادة بمجهودات الأخر على اعتبار أنه من الأدوات والآليات المطلوبة لكل سياسة ثقافية. ولا ندري، أكان هذا التغاضي مقصودا أو غير مقصود في تجنب إظهار أو إقصاء من يرجع لهم الفضل في السعي لجعل مكناس تراثا إنسانيا معترفا به من طرف اليونيسكو. أما وإن كان مقصودا فهذا يعتبر من المؤشرات المرضية الذي لا نريد أن يصاب بهام الشأن الثقاقي بمكناس، لأن الاعتراف بجميل الآخرين والاحتفاء بذوي الفضل هو أكبر مؤشر على صحة الذات في علاقتها مع التاريخ والذاكرة. فلا ينكر الفضل إلا جاحد، ولا ينساه إلا متكبر، وعدم الإقرار به يعتبر سلوكا مشينا وقصورا في النظر والرؤية. لنتسائل، ألم يخطر ببال منظمي مهرجان مكناس وهم في نشوة الاحتفاء بالذكرى 20 لترتيب مكناس تراثا إنسانيا عالما أن يستحضروا سيرة صاحب هذا الفضل رئيس المجموعة الحضرية لمكناس سابقا الطيب بنشيخ الذي استثمر علاقاته من أجل حث أعضاء من هيئة اليونيسكو على هذا الاعتراف. ولما لا دعوته شخصيا للحضور وتكريمه بالمناسبة بمعية معاونيه من الموظفين الذين سهروا على هذا المشروع كي يعرف المكناسيون من كان وراء هذه المبادرة حتى ترفع لهم قبعة الشكر والامتنان لأن ذلك من شيم الكرماء.
وتبقى مسألة تغيب الصحافة المحلية، والعمل بمنطق الانتقائية في التسويق الإعلامي للمهرجان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها إدارة المهرجان لأنه رفع منسوب الغضب لذا صحفيي مكناس، وأشعرهم بالاهانة. فكيف لا وقد لبوا النداء عندما دعاهم رئيس جماعة مكناس ليؤثة بهم اجتماعته حول “برنامج مكناس”. وعندما جاءت الفرصة ليكونوا شركاء في مهرجان مكناس هم أولى من غيرهم به اسقِطُوا من الحسابات. فماذا كان القصد من هذا السلوك؟ هل هو تحقير الفعل الصحفي بالمدينة واهانة الفاعلين فيه أم التسويق لفكرة أن الصحافة المحلية اقل من أن تعمل على تغطية نشاط من حجم مهرجان مكناس؟ وحتى وإن تم إشراك صحفيين من خارج مكناس “فجحا أولى بلحم حماره” تجنبا للمزايدات والصراعات لأنها في الأول والأخير لن تخدم مكناس في شيء.
وتبقى النسخة الأولى لمهرجان مكناس بإيجابيتها وسلبيتها مكسبا يجب السعي إلى تطويره بتضافر كل الجهود والحفاظ عليه، فالصعوبة ليست في الولادة، ولكن في الرعاية والاستمرارية.