من منا لم يزر مدينة طنجة وينبهر بشوارعها وبناياتها الشاهقة ومطاعمها ومقاهيها الزاهية وأماكنها الطبيعية الخلابة. أوروبا إفريقيا كما يحب الكثير أن يصفوها بجوها الساحر وجمال موقعها المبهر. طنجة الملهمة التي تسرق القلوب قبل العقول، هي عروس في أبهى الصور. هكذا يراها الزائر وحتى المقيم مع فارق بسيط، وهو أن هذا الأخير يرى مدينته بوجهين متناقضين، وجه ساحر جذاب، ووجه قاتم منفر. وتتجلى القتامة في مظاهر عدة لعل أبرزها أن طنجة لا تتوفر على مؤسسة استشفائية تليق بمقامها وبسمعتها، وحتى المرافق الصحية المتواجدة تنعدم فيها ادني شروط الاستشفاء العادية،لدرجة صار معها الولوج إلى احد منها بمثابة التوقيع كرها على شهادة الهلاك لا محالة.
لن نتحدث هنا عن وضعية هذه المرافق الاستشفائية لأن الأقلام قد جفت والأصوات بحت وهي تطالب بالتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن لا حياة لمن تنادي، فأصحاب العقد صموا آذانهم وعقدوا العزم على أن يهينوا ما تبقى من كرامة المواطن.
غير أننا سنقتصر الحديث عن المستشفى الجهوي محمد الخامس حيث يظهر بجلاء إلى أي حد وصل الاستهتار بهذه المؤسسة الاستشفائية وبأرواح العباد. وكيف يدخل المرتفق الى هذا المرفق للعلاج من إصابة خفيفة ليخرج منه إما فوق النعش وإما بعاهة مستديمة كما حصل للمرحوم ابرهام الحداد المغربي اليهودي المزداد بفاس بعد أن حل بطنجة في عطلة رفقة أفراد أسرته من أجل الاستجمام والاستمتاع بجمال المدينة لتنقلب فجأة لحظات الفرح والسعادة إلى مأساة حقيقية بعد أن أصيب الرجل على مستوى رأسه بسبب حادث عرضي دخل على إثره إلى قسم المستعجلات بمستشفى محمد الخامس في حالة حرجة لتجرى له بعد ذلك عملية جراحية دخل على اثرها العناية المركزة يوم الأحد 22 نونبر الجاري، ويسلم روحه إلى بارئها مساء الإثنين مخلفا وراءه صدمة حقيقة، وفي نفس الوقت فضيحة بخصوص تدني مستوى الخدمات الصحية في بلادنا.
فأن يسقط شخص ما، ويلج إلى المستعجلات، وتجرى له عملية جراحية ويدخل بعدها إلى العناية المركزة ثم يفارق الحياة، هو أمر مألوف في المستشفيات المغربية، لكن أن يتعلق الأمر بأخ أحد الحاخامات اليهود حل ضيفا على المغرب، فهذا ما شكل صدمة لدى مسؤولي المستشفى، وحرجا بالنسبة للوالي امهيدية الذي تفاجئ أثناء زيارته للمريض برفقة أحد المسؤولين الإسرائليين بالوضعية الكارثية للمؤسسة وتدني الخدمات الاستشفائية والتقصير المهول للقائمين على تدبير هذا المرفق الصحي. ومظاهر هذا التقصير هو أن العملية التي من المفروض أن يجريها بروفيسور على اعتبار أنها دقيقة وتستدعي خبرة وتقنية عالية، قام بها طبيب جراح عادي دون إشراف هذا الأخير، والعادة أن مثل هذه العمليات لا يقوم بها سوى بروفيسور أو طبيب جراح بإشراف البروفيسور. فأين كان هذا الأخير؟ ومن أعطى الإذن للطبيب بإجراء العملية؟ أضف إلى ذلك، أن العملية يجب أن يسبقها كشف بجهاز “السكانير” وهو ما تعذر فعله، لان نقل المصاب إلى حيث يوجد الجهاز يشكل خطرا حقيقيا على حياته وبالتالي التوفر على “سكانير” متنقل أمر ضروري، وهو ما استعصى على الفريق الطبي لأن المستشفى لا يتوفر على هذا النوع من “السكانير”.
وقد شكلت هذه المعطيات صدمة بالنسبة للوالي الذي استشاط غضبا في وجه المسؤولين وعلى رأسهم المديرة الجهوية للصحة ومدير المستشفى ومقتصدها، ليس هذا فحسب، بل حتى قسم المستعجلات لا يتوفر على أقنعة الاوكسيجين وما خفي كان أعظم. صحيح أن الوالي وقف على الوضعية الحقيقية لمستشفى “الموت” لكن الملام في هذه القضية ليس فقط مسؤولي هذه المؤسسة، بل حتى المقربين منه يتحملون جزء من المسؤولية لأنهم تعمدوا أن يخفوا عليه حقيقة ما يقع. وحقيقة معانات رعايا صاحب الجلالة.
ساعات فقط بعد اجراء العملية الجراحية حل بالمستشفى قادما إليها من المستشفى العسكري بالرباط بأوامر عليا بروفيسور مختص في جراحة الرأس وبرفيسور مختص في التخدير والانعاش حيث وقفا على حجم الإهمال والتقصير الذي تعرض له الراحل بالمستشفى ورفعا تقريرا بذلك، ومن يدري قد تكون الأيام القادمة فاصلة في تحديد مصير هذا المرفق والمشرفون عليه.
اليوم بات من الضروري على الوالي امهيدية أن يفتح تحقيقا بخصوص وضعية المستشفى الجهوي محمد الخامس مع تحميل المسؤولية للمقصرين. قصة “ابرهام” هي واحدة من عشرات القصص المأساوية التي تقع ب”مستشفى الموت” ومع ذلك لم يحرك أي مسؤول ساكنا رغم النداءات المتتالية، والدعوات المسترسلة لوقف نزيف هذه المؤسسة الاستشفائية. فمن المستفيد من تردي الوضع بها؟ هل هو لوبي المصحات الخاصة؟ فلا نكاد ننسى فضيحة حتى يهتز المستشفى على وقع فضيحة أفظع، فالي أين نحن ماضون بهذا العبث بأرواح الأبرياء؟