[author title=”فؤاد السعدي” image=”https://www.aljarida.ma/wp-content/uploads/2019/10/فؤاد-السعدي-ميزان-لكلام-1.jpg”]ميزانْ لكلامْ[/author]
“لا دخان بدون نار”، مثل شعبي معروف تتداوله الألسن لتأكيد صحة إشاعة ما حول أحد الأشخاص أو إحدى الجهات، وهو ما يعني أن الإشاعة لم تنطلق من فراغ، وأن انتشارها له ما يبرره. الحديث هنا عن خبر استقالة محمد اليوبي مدير مديرية علم الأوبئة ومحاربة الأمراض بوزارة الصحة الذي تناولته العديد من المنابر الإعلامية قبل أن يتم تكذيبه فيما بعد من طرف المعني الذي صرح أن الموضوع لا يعدو مجرد اشاعة، وأنه فعلا كان يفكر مرارا في الاستقالة بسبب الأجواء المسمومة المحيطة بوزير الصحة خالد أيت الطالب، غير أنه عدل عن الأمر واضعا مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، بمعنى فكرة الاستقالة كانت حاضرة لدى الرجل، وكان ينتظر الوقت المناسب لا غير، لكن السؤال الذي استعصى على أصحاب النهى فهمه وتفسير خلفياته، هو كيف خرجت هذه الفكرة وتحولت إلى خبر؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وأيا كانت الجهة التي أثارت الموضوع يجب ألا ننكر أن سيناريو استقالة اليوبي حيك بطريقة متقنة ودقيقة، وأن الغاية منه ليس “الاستقالة” في حد ذاتها كما قد يعتقد البعض، ولكن للفت الأنظار عن أشياء أخرى تتعلق بمحيط الوزير الذي وصف بالمسموم، وبالطريقة التي يدبر بها هذا المحيط جائحة “كورونا” وما يرتبط بها من صفقات بالملايير.
اليوبي عندما وصف محيط الوزير بالمسموم فلا شك أنه كان يقصد كل من عبد الإلاه بوطالب الكاتب العام بالنيابة، والاسماعيلي العلوي مولاي مصطفى مدير ديوان الوزير الذي كان يشغل منصب المفتش العام بالوزارة سابقا، وحفيظ الزهري المستشار الإعلامي والصديق المقرب للوزير قبل أن يتم الاستغناء عنه بسبب ما قيل بأنه فشل في إدارة الحملة الإعلامية للوزارة خلال جائحة فيروس “كورونا”، ولم يتمكن من وضع بصمات جديدة لتسويق وجه الوزارة خصوصا في مرحلة الأزمة، نفس المصير لقيه مدير الديوان الذي أُبعد بدوره من منطقة الضوء لكن هذه المرة بأيعاز من الوزير وبدون ذكر للأسباب، في محاولة من هذا الأخير لرأب الصدع، ولملمة الخلاف والتوتر الذي أصبح سائدا داخل دهاليز الإدارة المركزية، وحتى لا تتطور الأمور، وتخرج عن نطاق السيطرة، وينكشف المستور. فأن يُقَدِّمَ خالد أيت الطالب كل من مدير ديوانه والرجل القوي بالوزارة المشهود له بالحنكة، وصديقه المقرب، كبشا فداء لمجرد صراع حول المناصب أو المواقع، هي مسألة تبعث على الشك والريبة، وتجعل المتتبع يطرح العديد من علامات الاستفهام، حول ما إن كان للإثنين يد فيما يجري ويدور. وحتى لو حصرنا الموضوع في مجرد استقالة ما علاقة هذين الاسمين بموضوع استقالة اليوبي كي يلقى بهما خارج أسوار الوزارة؟ قد نفهم أن الصراع القائم بين اليوبي وبوطالب له علاقة بمنصب الكاتب العام، لكن ما يستعصى على الفهم، هو ما دخلُ مدير الديوان والمستشار الإعلامي في هذا الموضوع؟ ألم يكن الأقرب لتقديم الاستقالة هو عبد الإله بوطالب على اعتبار أنه يمارس مهامه ككاتب عام بالنيابة دون صلاحيات قانونية؟ ما هو السر وراء تشبث وزير الصحة ببوطالب رغم أن المعطيات تثبت فشله في تدبير هذا المنصب وإصراره على تعيينه خارج المساطر القانونية، ودون إجراء مباراة مفتوحة في إطار مبدأ تكافؤ الفرص، ويمنحه صلاحيات التوقيع على الملفات والصفقات والتعيينات في مناصب المسؤولية التي تهم الأطر الطبية، وهو يعلم جيدا أن سجله المهني لن يشفع له توليه هذا المنصب بشكل رسمي بعد الصفقة المشبوهة التي كانت سببا في إعفائه من منصبه لما كان مديرا لمستشفى الخميسات وإلحاقه بعد ذلك بالوزارة ليصبح بقدرة قادر على رأس مديرية المستشفيات والعلاجات المتنقلة. فهل لقربه من وزير الصحة السابق علاقة بهذه الترقية؟ بمعنى أدق منذ متى انقلبت الأمور حتى أصبحنا نرى المذنب يجازى والبريئ يحاسب ويعاقب؟ ألم يلتقط وزير الصحة إشارة العثماني المتعلقة برفضه التوقيع على قرار تعيين بوطالب كاتبا عاما لوزارة الصحة وهو الذي سهر على إعداد طلب الترشيح لهذا المنصب على مقاسه؟
إن واقع الحال إذن يكشف بما لا يدع مجالا للشك عن حقيقة لا غبار فيها، وهي أن وزير الصحة فشل فشلا ذريعا في إيجاد توليفة قادرة على خلق الانسجام بين محيطه، وبأنه يفتقد تلك الكاريزما القادرة على بناء جسور الثقة بينه وبين المشتغلين إلى جانبه بما يعزز نقاط الالتقاء والقواسم المشتركة، ويضع المعالجات لتقريب وجهات النظر في جوانب الخلاف، ولا يدرك طبيعة الظرفية وحساسيتها وبأنه مطالب بمعالجة الاحتقان بشيء من الحكمة والعقل والبصيرة وأن يكبح جماح وتطلعات صديقه المسعورة لامتلاك زمام الأمور؟ ولعل عبارة “عندى ملفك” التي يلوح بها صديقه وكاتبه العام بالنيابة في وجه كل من عارضه في الرأي أو خالفه في التوجه إما لقمعه و إما لترهيبه مؤشر خطير على أن قطاع الصحة ماض نحو الحضيض لو تحولت صفة النيابة إلى الرسمية على منصب الكاتب العام.
أكثر من علامات الاستفهام تحوم حول العلاقة الملتبسة بين وزير الصحة والكاتب العام بالنيابة، التي تتعدى حدود الصداقة منها إلى تبادل المصالح لدرجة أن أيت الطالب يصر على إبقاء منصب الكاتب العام في خانة “المؤقت” ويرفض الإعلان عن مباراة للتباري لشغله. فلا يحتاج الوزير أن نذكره بأن مصلحة الوطن فوق كل الطموحات الشخصية وفوق كل المصالح والاعتبارات مهما كانت، وأن مواقفه يجب أن يتخذها وفق حسابات دقيقة بعيدًا عن مستنقع المنافع والأحقاد والرواسب الدنيئة والحسابات الذاتية والطموحات والمصالح الذاتية، لأنها مواقف مرفوضة بكل المعايير الأخلاقية والوطنية. لا يحتاج أن نذكره بأن كل محاولة إغفال المصلحة الوطنية هو إعلان صريح عن الانغماس في المصالح الأنانية الضيقة، وأنه آن الأوان لإعادة ترتيب الأولويات بما يضمن المصلحة العامة ويصون كرامة مهني قطاع الصحة.
فنيران الحرب الباردة القائمة داخل أسوار الإدارة المركزية والسعي الحثيث لإخمادها ليس له سوى تفسير واحد، ألا وهو محاولات التستر على بعض المتلاعبين بصفقات الأدوية والتجهيزات الطبية، التي خصصت لها الحكومة اعتمادا ماليا يقدر 2 مليار و200 مليون درهم من الصندوق الخاص لمواجهة جائحة “كورونا”، وأن استقالة مدير الديوان ما هو إلا ضحك على الذقون، ومحاولة سقيمة واهية لاهية لدر الرماد في العيون، وضربًا من ضروب المهزلة لا يجب أن تمر مرور الكرام. وبالتالي يجب أن نفهم أن إشاعة استقالة محمد اليوبي ما هي إلا إشارة واضحة للفت الانتباه لما يجري بمطبخ الوزارة، ورسالة لمن يهمه الأمر من أجل التحرك خاصة، وأن مسطرة اللجوء إلى طلبات العروض بدل إبرام الصفقات التي اعتمدتها الدولة في زمن “كورونا” قد تسيل لعاب العابثين والفاسدين وتجار المآسي، لذا بات على المسؤولين بأجهزة الرقابة وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات، والمفتشية العامة للمالية إلتقاطها والتفاعل معها واعتبارها الشجرة التي تخفي الغابة، وأن الجدل الدائر حول صفقات وزارة الصحة الآن سيكون الشغل الشاغل ونقطة الخلاف المحتدمة التي قد تطول ما لم يلتفت من يعنيه الأمر إلى مخاطر المرحلة وتحدياتها الصعبة، إذ لا توجد قضية مهما كان حجمها وقيمتها إلا وراءها ما وراءها وهو ما ستكشفه تقارير المفتشية العامة للمالية.
فما يمر منه وزير الصحة حاليا بعدما أبعد مقربيه دون التفكير في من سيخلفهما، وحالة الارتباك التي أصابت محيطه المهزوز، وأثرت سلبا على صيرورة تدبير وتسيير الوزارة التي لم يمر على توليه زمام شؤونها سوى أشهر قليلة، يشبه إلى حد كبير المثل الشعبي: “قالوا باك طاح، قالُّو من الخيمة خرج مايل”، فهل يرجى ممن فشل في تدبير المستشفي الجامعي الحسن الثاني بفاس أن ينقذ منظومة الصحة وينتشلها من العبث الذي تتخبط فيه؟ ..