[author title=”زايد الرفاعي” image=”https://scontent-mrs1-1.xx.fbcdn.net/v/t1.15752-9/42816374_2182466125375715_2027067775930859520_n.jpg?_nc_cat=100&oh=fdae3e24c81a198604995b1d6095cb9d&oe=5C1589B3″]ماستر في الصحافة[/author]
كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، أقف في (التيرمينيس) آخر محطة، أنتظر الحافلة كي أتوجه إلى الكلية، أرفع رأسي إلى السماء، ألمح شمسا خجولة بدأت تكشر عن حرارتها، وأشعتها البارة تتأهب لمعاقبة باردي المشاعر جامدي العواطف.
أرتدي نظارتي الشمسية وأنظر إلى الساعة.
تبا.. الوقت يداهمني أظن أنني سأتأخر عن صديقتي التي تنتظرني أو ربما تكون على وشك الوصول.
في الحقيقة لا يهمني تأخري من عدمه، ما يورقني أن التي ستنتظرني أنثى، كم أكره الالتزامات خصوصا إن كان الموعد مع إمرأة، النساء يا رفيقي انتظارهن في كلتا الحالتين سلوك غير بريئ يحتاج إلى تشريح سيميائي.
ألمح حافلتين قادمتين لم أستطع تمييز رقميهما، في العادة أستقل الحافلة رقم 14 أما الآن أي رقم يمر من أمام الكلية سأستقله.
أخلع النظارة الشمسية، وفعلا كما خمنت حافلتي لم تصل بعد، كلاهما نفس الرقم، يا لها من إشارة سيئة.
أستغفر الله!! في الواقع أنا لا أومن إطلاقا بخزعبلات نحس الصباح وسوء الحظ… وكل تلك التراهات التي يقدسها العالم الثالث.
بالمناسبة؛ “أنا” في الحياة الواقعية، عكس ” أنا” في عالم الكتابة، متناقض تماما.
في الحياة واقعي، عملي، مبدئي، صديق لمن يستحق وجامد العواطف إلا في حالات استثنائية جدا، أما في الكتابة زئبقي بين الأنا الأعلى والهو، مثالي ورومانسي أحيانا، صعلوك فكريا، و في أخرى غير مبالي.
في الكتابة من الصعب أن تفهمني، إلا إن كنت تجيد حشو أقلام التوحد بمداد التصوف كحالي.
إذا، الرقم 26 سيفي بالغرض سأستقله مكرها، فمسألة التأخر الآن أصبحت حتمية، ولو تحولت الحافلة إلى -تي چي ڤي- أو حتى إلى براق.
أفكر فقط في الوصول إلى الكلية، فقد سئمت الإنتظار بالرغم من أن الحياة علمتنا أن ننتظر.
سائق الحافلة شاب في مقتبل العمر لكنه، كشمس هذا الصباح تماما، يكشر في وجوه الزبائن، يعتقل إبتساماته بتهمة أنه لم يدخن سجارته الأولى ولم يشرب قهوته المرة بعد.
يا له من سائق غبي ويا لها من مبررات ساذجة، أظن لم يتبقى له سوى تحرير عبارات شبيهة بالمحاكمات الصورية، إقتداء بالتهريج التافه الذي تنهجه بعض الشرذمة من الأقلام المأجورة، في حق أحرار الريف وأبناء الوطن المكلومين، إنهم يتوهمون أن السيناريوهات المحبوكة ستنسينا جرائم وحيوانية الكلاب الضالة.
أبدا لن ننسى قضيتنا، ولدنا أحرارا وسنحيا كذلك.
إن تكشيرة وعصبية السائق ذكرتني بقصيدة محمود درويش “لا شيئ يعجبني، يقول مسافر في الباص”.
أردت أن أمازحه فقلت له : صديقي أنت مسؤول عن حافلة يجدر بك الإبتسام بوجه الركاب و ليس أن تمثل لنا مشهدا من مشاهد أفلام الرعب.
فأجابني بعد أن رفع إحد حاجبيه في السماء، (صبحنا على الله، ثم شغل أغنية وكأنه لا يبالي بوجود أحد، الأغنية تقول: جيتي عاوتاني تصدعليا راسي)، أظنها لأسماء المنور.
إنتظرت حتى انتهت الأغنية، ودونما أن ألفت انتباهه بأنني فطنت إلى قصده الذكي، قلت له وأنا لا أزال أمازحه: على الأقل زد في السرعة كي لا أتأخر فليس أمامي سوى 15 دقيقة.
وكي أستفزه تظاهرت أني أسأله بجدية.
يبدو لي أنك جديد في عالم السياقة، نعم هو كذلك تبدو مجرد هاوي؛ متى حصلت على رخصة السياقة ؟
فإبتسم إبتسامة عريضة، ثم قال لي: (أنتم الطلبة ألسنتكم براء منكم إلى حين تتخرجون من الجامعة أو تخرجون منها)..!! صديقي ربما تكون درست الفلسفة والأدب والمنطق… فإن كنت تدرس في الكلية، فإن الذي أمامك، درس في جامعة الحياة ومن قبلها في سنين طويلة في مدرسة الشارع، ثم أكمل حديثه وهو لايزال لم يدخن سجارته الأولى: (هل تراهنني أن أقود الحافلة برجلي، دون أن أستعمل يدي إطلاقا ؟
إبتعدت عنه متجها إلى مقعد فارغ محاديا للنافذة كما أفضل، وأنا أردد في نفسي، أمجنون هذا أم متعلم أم أحمق أم مثقف؟
في الحقيقة أول “سائق” سيجعلني أغير نظرتي حول سائقي الحافلات.
جلست محاديا إلى النافذة.. أمسكت هاتفي الذكي، بنية أن أمارس طقوسي الغبية على بعض المنشورات والتعاليق الفايسبوكية.
الحافلة تتوقف في إحدى علامات المرور، أرفع رأسي فإذا بأربعة أفارقة يرتدون ملابس شتوية في عز هذه الحرارة، وكأنهم يسخرون بلغة التحدي من حال الطقس، أو كأنهم يعلنون غضبهم على قانون الطبيعة الذي لم ينصفهم.
في حين كان على الرصيف الآخر، عائلة سورية، وكلاهما يتوسلان دراهم معدودات، يتخلون عن جزء من كرامتهم كي يعيشون كرامة أفضل.
وما بين سوريا وإفريقيا صراعات خفية عنوانها البقاء للأقوى.
في اللحظة ذاتها، كانت فتاة سورية تبلغ من العمر حوالي 17 سنة تنظر إلي بعينيها العسليتين بنظرات غريبة، مرة أخرى أتذكر محمود درويش في رائعته “ريتا وعيون ريتا”.
الفتاة جميلة، حسناء، نظراتها تقول الكثير ولا تقول شيئا، أول مرة أتمنى لو يتوقف الزمان عند الإشارة الحمراء، في حضرة عذراء الشام.
في ثواني معدودة، أبحر بخيالي وأفكاري في جزيرة عيونها العسلية، أحسست وكأني أغرق في بحر، أول مرة أيضا أتمنى أن لا يمد أحد يده لإنقاذي.
أصحو من هذا المشهد التيطانيكي.
عدت إلى وعيي، إذ بي أرى الشامية الحسناء تتقدم نحوي وفي يدها باقة ورود حمراء، تبيعها للمارة والراجلين وراكبي السيارات.
أتقدم صوب الباب الأمامي، ودونما أن أكلمها أو تكلمني، لوحت لها بتحية أنيقة ردت علي بأحسن منها، ناولتني وردة حمراء، أشرت لها بأناملي أني أود المزيد، بنفس الإبتسامة تناولتي وردة ثانية، ثم قدمت لها مبلغا قدره ورقة نقدية.
ألوح لها بيدي محيلا بإعتني بنفسك صغيرتي، تجيبني: (يا زلمي خود بالك عالطريق وفعيونك محظوظة الورد تبعك).
الإشارة أضحت خضراء، أعود إلى مقعدي، أرمق السائق العصبي ينظر إلي خلسة، ويكتفي بتحريك رأسه بطريقة غريبة.
أنظر إلى الوردتان وأخاطب نفسي: الآن فقط.. الآن فقط لم يعد تأخري من عدمه على رفيقتي يحتاج مبررا، فبنت الشام كفرت عن الخطيئة، والقربان أصبح بحوزتي.
نعم، ستشفع لي صديقتي، حين تباغتها الوردة الحمراء، بصباح الخير عزيزتي.
وهل في الكون شيء أكثر سحرا على تملك قلب امرأة، وجعل غضبها ينصهر في ثوان، أكثر من الورد..؟؟