[author title=”فؤاد السعدي” image=”https://www.aljarida.ma/wp-content/uploads/2019/10/فؤاد-السعدي-ميزان-لكلام-1.jpg”]مِيزان لكلام[/author]
لم يكشف الانتشار السريع لوباء “كوفيد-19” شرخا بين شمال وجنوب أوربا فقط، بل أيضا هشاشة نظام عالمي لطالما تغنى بالدفع عن المبادئ الإنسانية الكونية، وفضح عورات كيانات بدت عملاقا من ورق تهاوى أمام عاصفة “كرونا” العاتية، حتى أمريكا نفسها تبين أن فكرة منقذ البشرية التي تروج لها في كل وقت وحين لم تكن سوى مجرد دور سينمائي لا يتعدى حدود شاشات الكبرى.
إنه بالفعل أكبر تحدي يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، غير أن الاسواء لم يأتي بعد. تكتلات عالمية كبرى، وقوى عظمى، سقطت في امتحان “كورونا” الصعب، وبدت دون المستوى المتوقع في مواجهة التحدي. تردد في اتخاذ قرارات المناسبة، طمس للحقائق، وإفراطا في الثقة، وفي قدرة الأنظمة الصحية على المواجهة، وفي الأخير ترفع الأحجبة، ثم الانكشاف مع تفشي الوباء، وسقوط العشرات الآلاف من الضحايا، ضحايا الوهم وسوء التقدير، وفشل في توقع الأخطر، قبل أن يكونوا ضحايا الفيروس نفسه.
لن نتحدث هنا عن دول نامية أو فقيرة، بل عن دول كبرى متقدمة كإيطاليا وفرنسا وأنجلترا وغيرها ممن تأتي في صدارة دول العالم في الدخل القومي، والتقدم الحضاري، ويجمعها كيان كبير اسمه الاتحاد الأوربي، الذي بات يتصدر مناطق العام في عدد الإصابات والوفيات جراء فيروس “كورونا” الكاسح .
في المرحلة الأولى لتفشي الوباء انكفأت معظم دول الاتحاد الأوربي على نفسها، وغابة واجبات الشراكة والتضامن، حيث أن بعضها استنجد بالجيران لكن لا مجيب إلى هبت الصين وروسيا وتركيا وكوبا وغيرهم لمساعدة إيطاليا التي طالب رئيسها دول الاتحاد بأن يكون أكثر وحدة وشجاعة أمام القلق من التمدد الروسي والصيني، فهل هي مؤشرات على بداية رسم خريطة جديدة لأوربا التي ظهر اتحادها أهون من خبط العنكبوت؟ وما هي فرص النجاح لترميم هذا الكيان مع استمرار تفشي الوباء وانعكاس ذلك على اقتصاد الدول والكيانات المنتمية إليها؟ وهنا لن نتحدث عن الدول العربية التي نخرت جسدها منذ الأمد الخلافات، والمؤامرات والدسائس، ولم تنتظر حتى تحل “كورنا” لتثبت فشلها وقلت حيلتها، فهي كما هي منذ كانت في القاع وستبقى. فأي عالم ستخلفه هذه العاصفة من ورائها؟
مظاهر الارتباك واضحة في التعامل مع الأزمة، والدول الأوربية تواجه الوباء بشكل منفرد ومتأخر أحيانا بالنظر إلى تسارع وثيرة تفشيه، لترتفع الأصوات المنددة بتقصير الاتحاد الأوربي، وغياب القرارات الموحدة في الوقت المناسب، الشيء الذي فتح باب أمام التساؤل حول جدوى اتحاد بدا غير متحد في مواجهة هذه الازمة، وبدأت الانتقادات لحكوماته لعجزها على العمل الموحد، وإسراعها إلى غلق حدود بلدنها، وهو ما اعتبر انتهاكا صارخا لاتفاقية “شينغن”، بالإضافة إلى موقف البنك المركزي الأوربي الذي بدا غير معني بإيجاد حلول مالية لمواجهة تفشي الأزمة في المراحل الأولى من انتشار الوباء. وكأن الوباء أعاد رسم خارطة الحدود الجغرافية لدول الاتحاد الأوربي، وطرح فكرة السيادة الوطنية التي كانت منذ أواخر القرن الماضي عندما كانت أوربا منقسمة إلى شمال وجنوب. الاتحاد الأوربي لم يتصرف باعتباره جماعة، ووحدة إقليمية منسجمة، بل ترك هامشا للمبادرات الوطنية التي شكلت حماية فردية لا تنظر إلى من يحاذيها، أو يجاورها، ويبدو أن الجراح الرمزية ستظل تتابع هذه الوحدة خلال السنوات القليلة القادمة وقد ننتظر تغيرات جيوسياسية في علاقة بالدروس المستخلصة من وباء “كورونا”.
وفي الوقت التي يتحرك فيه الاتحاد الأوربي لرأب الشرخ و الخروج بأقل الخسائر في امتحان “كورنا” العسير، نكاد لا نسمع صوتا موحدا على مستوى الدول العربية، اللهم بيانا يتيما للجامعة العربية، وهذا ليس بالغريب على الكيان العربي الذي طالما اُختُبر في أزمات حادة غير أن ردت فعله لم تكن بالمستوى المطلوب. وحتى اتحاد المغرب العربي الذي يحتضر مثله مثل أجهزت العمل العربي لم يصدر بيانا أو يجتمع لإيجاد مقاربة موحدة جماعية تضع الإمكانيات المتباينة من دولة إلى أخرى سواء بشرية كانت أو مادية، ووضع السياسيات الاستراتيجية الاستباقية، لتضل هذه الدول على قلت حيلتها وإمكانيتها الضعيفة معارفها منغلقة على نفسها وتدبر الأزمة بشكل منفرد، حتى أن بعض الدول كالجارة الجزائر لم تنتهي من منطق المؤامرة والدسائس التي شكلت الحجر الأساس في سياستها الخارجية رغم أزمة “كورنا”.
فمن يعتقد أن الدول العربية ستستخلص الدروس والعبر من أزمة “كورونا” فهو واهم، وغياب أرادة لدا هذه الدول للتحرك الجماعي ليس جديدا، وحتى لو لم تتحرك هذه الدول نتمنى ألا يتآمر بعضها على بعض، ولا يحاصر بعضها بعضا، ولا يكون هناك دسائس خصوصا إذا علما أن الأوبئة في كثير من الأحيان تعيد تشكيل أو ترميم السلطة السياسية للدول. فما تحتاجه هذه الدول اليوم هو استثمار هذه الأزمة من أجل دعم سلطتها لفرض السيادة الوطنية، وإعادة تشكيل فكرة الدولة الراعية والحاضنة والمخلص الوحيد لمواطنيها بآليات وأدوات جديدة، وأيضا إعادة النظر هذه الأنظمة، وفي ترتيب أوليتها غير التي كانت، لتصبح الاولوية للبحث العلمي و لقطاع الصحة العمومية والتعليم العمومي والإنفاق العمومي، هو الاتجاه نحو النظام الشمولي لكن بأدوات حديثة تراعى فيها القيم والمبادئ السامية لحقوق الإنسان، فكل هذه المواضيع لا تقل أهمية عن التسابق نحو التسلح، أو التركيز فقط على المقاربات الأمنية على حساب الحرية والديمقراطية. الأكثر من هذا وذاك هو أن الكيانات العربية تحتاج اليوم إلى بناء روحي وأخلاقي يثمن الكائن البشري. و إلى أن تنجي أزمة “كورونا” التي فرضت التفكير في إعادة صياغة المفاهيم، هل ستستفيق الدول العربية من سباتها العميق، أم ستبقى على ما هي عليه حتى ظهور وباء آخر؟